سورة الكهف ومنهج التزكية (١٦) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها (٢)

 سورة الكهف ومنهج التزكية (١٦)
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها (٢)


الحمد لله الذي أحسن كل شىء خلقه، وأبدعه...
والصلاة والسلام على نبينا محمد خير من فارق لله مضجعه ومهجعه...
وبعد؛

فمع المعنى الثاني المستفاد من قول الله عز وجل في سورة الكهف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا٧ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا(٨) [الكهف: ٧-٨].. ألا وهو الإحسان.

ففي الآية الكريمة إرشاد العباد إلى منزلة الإحسان التي هى الفوق الأعلى لمراتب الإيمان؛ وذلك بتعليم الله لهم من خلال حبك صنعه ﴿ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُ، فالإحسان صفة كمال، وهو من أوصاف ربّ العالمين، وضده الإساءة التي هى نتاجٌ عن صفات النقص كالجهل والعجز والقصور وما إلى ذلك من أوصاف تستحيل على الله تعالى.

وقد تحدّث الله جل جلاله عن صنعه لهذا الكون فقال: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (النمل: ٨٨)، ودعا الخلق أن ينظروا في هذا الكون وأن يفتّشوا عن مأخذ في هذه الصّناعة يشينها، فقال سبحانه ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا  مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ  فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(٤) [الملك: ٣-٤]، وجعل ذلك الإتقان والحبك والإحسان في خلقه وصنعه حاديا يحدو بهم نحو الكمالات فيما يتعاطونه من أعمال ظاهرة وباطنة فقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) [هود: ٧]، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء»...

۞ قال الشيخ ابن باز –رحمه الله تعالى- حين سئل عن سبب خلق الله للسموات والأرض وما بينهما في ستة أيام مع قدرته سبحانه على خلقها بقول كن في أقرب من لمح البصر؛ فقال –مع تصرف-: 
ذكر العلماء رحمهم الله أنه خلقها في ستة أيام ليعلم عباده عدم العجلة وأن يتدبروا الأمور ويتعقلوها، فربهم الذي يعلم كل شيء وهو القادر على كل شيء لم يعجل في خلق السماوات ولا في خلق الأرض بل جعلها في ستة أيام، ولم يعجل في خلق آدم ولم يعجل في خلق الأشياء الأخرى، بل نظمها ودبرها أحسن تنظيم وأحسن تدبير، ليعلم عباده التريث في الأمور وعدم العجلة في الأمور، وأن يعملوا أمورهم منظمة موضحة تامة على بصيرة وعلى علم من دون عجلة وإخلال بما ينبغي فيها، وهو سبحانه مع كونه قادرا على كل شيء وعالما بكل شيء مع ذلك لم يعجل بل خلقها في ستة أيام وهو قادر على خلقها في لمحة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سبحانه وتعالى، فأخبر أنه خلقها هكذا؛ ليبلونا وليختبرنا أينا أحسن عملا، وأتقن عملا، وأكمل عملا، فالعَجِلُ الذي لا يتدبر الأمور قد يخل بالعمل، فالاعتبار بالإتقان والإكمال والإحسان لا بالكثرة. (انتهى بتصرف)
 
۞ تعريف الإحسان:
وما أحسن تعريف المناوى للإحسان إذ يقول: الإحسان: إسلامٌ ظاهر، يقيمه إيمانٌ باطن، يكمّله إحسانٌ شهوديّ.
وقال الفيروز اباديّ: الإحسان يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير. تقول: أحسن إلى فلان، والثّاني إحسان في فعله. وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملا حسنا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه»، والإحسان يكون في القصد بتنقيته من شوائب الحظوظ، وتقويته بعزم لا يصحبه فتور، وبتصفيته من الأكدار الدّالّة على كدر قصده، ويكون الإحسان في الأحوال بمراعاتها وصونها غيرة عليها أن تحوّل.

۞ منزلة الإحسان:
والإحسان هو منزلة الشهود؛ بألَّا يرى فاعلا في الكون على الحقيقة إلا الله، ومتى تحقق بذلك فلن يصدر عنه فعل إلا لله وبالله ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(١١٢) [البقرة: ١١٢].

قال ابن عطاء الله السكندري –رحمه الله تعالى-: حُسْنُ الأَعْمَالِ نَتَائِجُ حُسْنِ الأَحْوَالِ، وَحُسْنُ الأَحْوَالِ مِنَ التَّحَقُّقِ فِى مَقَامَاتِ الإِنْزَالِ.
 
وثمة سؤال: لم خلق الله الخلق بهذا الإتقان مع أن مآل هذا الخلق إلى الزوال ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا٨ [الكهف: ٨]؟
في ذلك فوائد، منها: أن يُعَلِّمَ عباده أنهم مأمورون بالإحسان غير مسئولين عن النتائج؛ فربما يحسن المرء في أمر غاية الإحسان ثم تتخلف النتائج، أو تكون على غير المأمول من المبذول؛ فعليه حينئذ أن يسلم للقدر الإلهىّ، والحكمة العليّة؛ كما قال سبحانه: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(٨٢) [النحل: ٨٢]، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ(٤٠) [الرعد: ٤٠]، وكم من نبى أرسله الله إلى قومه فلم يؤمن به أحد؛ فما قدح ذلك في نبوته، ولا انتقص من قدر كرامته. 
وفي قوله سبحانه ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا(٨) بعد قوله ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(٧) دلالة على أن أحسن العمل فيها ترك زينتها والزهد في زخرفها واتقاء فتنتها، فبعد أن زينها زهدها بقوله ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا(٨).
 
فلا ينبغي لمسلم محسن أن يضيّع عمره هباء، ولا أن يعيش في الكون سدى، فعن الشّريد- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله يوم القيامة يقول: يا ربّ إنّ فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة»، بل عليه أن يغتنم كنز عمره الذي هو منة ربه ووقت امتحانه بصرف أنفاسه إلى معالى الأمور، وليس ثمة أعلى من كتاب الله عز وجل؛ فهو الحقيق ببذل كل شىء له، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»
 
فاللهم يا من أحسن كل شىء خلقه
اهدنا لأحسن الأحوال والأقوال والأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت
واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت
أنت حسبي ونعم الوكيل
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد
والحمد لله رب العالمين
 

Comments

Popular posts from this blog

سورة الكهف ومنهج التزكية (١) الحمد على الكتاب

لطيفة في الدلالة المعنوية لرسم اللفظ القرآني (صاحبه)

القرآن بين الفطر والأضحى