القرآن بين الفطر والأضحى

القرآن
بين الفطر والأضحى


الحمد لله الذي خلق كل شىء وقَدَّر...
والصلاة والسلام على النبى المطهَّر، خيرِ من لبَّى وكبَّر ...
وبعد،

فإن من أعظم ما يتوصل به العبد لحسن العبادة؛ أن يفقه عن الْمُشَرِّعِ حكمته ومراده، فهو أنفع شىء لزيادة اليقين، وأرسخ ما يُثَبِّتُ المرءَ على الدين، فإن الخوارج كانوا أكثر من الصحابة في ظاهر العبادات؛ لكنهم مرقوا من الدين كالسهام الخاطفات، لأنهم لم يعرفوا جوهر الشريعة، ولم يفقهوا حكمتها البديعة، فاجتثتهم عواصفُ الفتن لما حَلَّتْ بهم، وخرَّ عليهم السقف من فوقهم.

وإنَّ من مظاهر إحكام هذه الشريعة الحنيفية ارتباط تنزلها بأزمنة معنيَّة، تتضح من خلالها الحكمة من إقامة هذه العبادات في تلك الأوقات؛

وإليك البيان... 

رمضان ووَدْق التنزيل:

لماذا اختص الله شهر رمضان بتنزيل القرآن؟

ولماذا العيد – عيد الفطر- بعد رمضان؟

أما رمضان فمشتق من مادة (ر م ض): التي تدل على حدة في شىء من حرّ وغيره، فالرَّمَضُ: شدة الحر، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَمَّا نَقَلُوا أَسماء الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بالأَزمنة الَّتِي هِيَ فِيهَا فوافَقَ رمضانُ أَيامَ رَمَضِ الْحَرِّ وَشِدَّتِهِ فَسُمِّيَ بِهِ.

والقرآن نزل في زمان كفر قاحِط؛ فعند الإمام مسلم من حديث عياض المجاشعى رضى الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «...وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ... »

والكفر يساوي الموت؛ وقد جاءت الشريعة بذلك التمثيل قرآنا وسنة؛ فقال الله عز وجل ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾: ميتا أى بالكفر فأحييناه أى بالوحى والإيمان، وفي الحديث قَالَ النَّبِيُّ : «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» صحيح البخاري.

والوحى (القرآن) يماثل الغيث؛ لِمَا بينهما من مجانسة من جهة النزول –وهى السماء-، ومن جهة أثر الإحياء؛ فكما أن حياة الأرض بالماء؛ فكذلك حياة الأرواح بوحى السماء، قال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16-17].

وكذلك ضرب النبى  مثلا للوحى بالغيث فقال : «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ؛ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (صحيح الإمام مسلم) ، وهذا كقول الله سبحانه:﴿أَوۡكَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾، وقوله عز وجل: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾[الرعد: 17]

وعليه؛

فلما كانت الأرض تعاني من حرِّ الكفر وجَدْبِه؛ أنزل الله غيث الوحى في شهر الرَّمَضِ (شدة الحر)؛ ليحيي به شجرة الإيمان في قلوب الخلق بعد بوار الكفر.

فنزل الروح بالروح على أشرف روح لأجل حياة الأرواح.

وإنما شُرِعَ الصيام في شهر نزول القرآن لتتهيأ روح العبد لاستقبال أنوار الحكمة وبينات الهدى والرحمة، بالنزوع عن حظ طِينِيَّتِه من المطعم والمشرب والمنكح؛ لذا قرن الله بين ذكر شهر رمضان وبين نزول القرآن بقوله سبحانه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ليُعْلِمَ أنَّ من أَجَلِّ مقاصد الصيام تصحيح الوصل بالقرآن، ويشهد لذلك أن جبريل عليه السلام كان يدارس النبىّ  القرآن في ذلك الشهر، ولذا ندب الشارعُ الحكيمُ قيامَ ليله بعد صيام نهاره، ووحَّد بين جزاء الصيام والقيام ليدل على وحدة المقصد منهما –التي هى تدبر القرآن- فقال : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ / من قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، بل ووعد من قام ليلة القدر التي أنزل فيها هذا القرآن بنفس الجزاء؛ لما في قيامها من معنى التعرض لنفحات التنزيل إسلاما وإيمانا.

ويُلاحَظُ في آية ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ قولُه تعالى ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، وخَتْمُهَا بقوله ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وفي هذا الختم إشارة للحكمة من مشروعية العيد –عيد الفطر- بعد تنزل الغيث في شهر رَمَضٍ تستشرف فيه الأرواح لقطرة ماء، بإعلان التكبير والتهليل والتحميد إجلالا لله، وشكرا له سبحانه، وامتنانا لتنزيله غيث رحمته بعد هاجرة الكفر التي ملأت الأرض، ولتكون صلاة العيد مؤذنة بتجديد الصلة بين العبد وربّه بعد زمن فترة من الوحى. (أى بعد زمن انقطاع الوحى).

وإنما سمى العِيدُ عيدا: لأنه اليوم الذي يعود فيه الفرح والسرور، لذا قال الله عز وجل عن مؤمني أهل الكتاب ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الرعد: 36]، يفرحون لعودة الوصل بحضرة القدس...﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ

فوجه تسمية العيد الأول بعيد الفطر: ليس لتوديع الصيام باستقبال ألوان الطعام، بل لفطر الأرواح الظامئة على هنيء الوحى ومريئه.

عيد الأضحى وآية التمام:

وفي يوم عرفة تنزل آية كمال الملة وتمام النعمة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ ليستقبل المسلمون عيدهم الثاني شاكرين لربهم إتمام ما ابتدأهم به في عيدهم الأول من نزول نعمته عليهم، ولترتبط عقيدة العيدين بعودة نزول الوحى إهلالا وإكمالا. (إهلالا: يقصد به فواتح التنزيل، وإكمالا: أى تمامه وختامه)، وليكون النحر علامة شكر على إتمام تنزل الذكر.

وبهذا المعنى تفهم الحكمة من كون الحاج والمضحي لا يأخذون من أشعارهم و لا أظفارهم شيئا إلى يوم النحر –يوم العيد-؛ إشارة إلى أن هذا الوحى النازل غيثا من السماء نزل ليطهرهم من وسخ الكفر ودنس الجاهلية الذي بدّل فطرتهم ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29] والتفث: هو انتشار الوسخ، ومعنى قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾: أى ليزيلوا ويميطوا عن أنفسهم ما لحق بها من وسخ؛ بنحو: قص الشارب، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر؛ التي هى من سنن الفطرة، إشارة لعودة الخلق بنزول الوحى الخاتم إلى أصل فطرتهم التي فطرهم الله عليها من خلوص التوحيد لوجه الله الحكيم الحميد، تَنَزُّهًا وتَطَهُّرًا من وسخ الكفر والشرك ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30]، وليكون في تطهير الظاهر الجسدي إشارة جلية على تطهير الباطن الروحي بهذه الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، ويشهد لذلك المعنى قول الله عز وجل: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ أى واذكروه لأجل هدايته لكم ﴿وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ﴾ قال سفيان: من قبل القرآن.

۞ فتكبيراتُ العيد إعلانُ فرحٍ بالقرآن المجيد ۞

وثَمَّ مناسبة بديعة:

فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه بسنده عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ»...

واللطيف أن موضع هذه الآية هو سورة المائدة، والمائدة هى ما طلبه الحواريون من عيسى ابن مريم عليه السلام لتكون لهم عيدا ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 112-115]

فتنتظم آية عيد المسلمين في سورة المائدة التي تشير إلى عيد النصارى؛ لتتجلى المفارقة العظمى بين المأدبتين وبين العيدين، فشتان بين من يطمئن قلبه بملء بطنه، وبين من يطمئن قلبه بذكر ربه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضى الله عنه قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَهُوَ آمِنٌ»،

قال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد: 27-30]

فاللهم يا من له الأسماء الحسنى، ويا رافع السماء بالسرِّ الأسنى

نسألك اللهم أن تحيي موات قلوبنا بسرِّ ذكرك

وأن تنهض هممنا بروح من أمرك

وأن توزعنا شكر نعمائك، وذكر آلائك

واجعلنا اللهم من أهل المعرفة، وحققنا بكمال الصفة

وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على بدر التمام الأنور، ومسك الختام الأذفر؛ نبىِّ الشفاعة، صاحب حوض الكوثر

والحمد لله والله أكبر

 صاحب القرآن 
نديم فرج خطاب

Comments

Popular posts from this blog

سورة الكهف ومنهج التزكية (١) الحمد على الكتاب

لطيفة في الدلالة المعنوية لرسم اللفظ القرآني (صاحبه)