لطيفة في الدلالة المعنوية لرسم اللفظ القرآني (صاحبه)

 

لطيفة في الدلالة المعنوية لرسم اللفظ القرآني
(صاحبه)

الحمد لله ذي اللطف الخفىّ، والمنّ الحفىّ..

والصلاة والسلام على النبىّ البهىّ، ذي الخلق العلىّ، والوسم الجلىّ..

وبعد؛

فبين يديك لطيفة في رسم اللفظ القرآني –عاملنا الله بجميل لطفه-:

قد تقرر في التذكرة السالفة المسماة بـــــ(الصحبة وأثرها في الأحسنية) أن المجانسة شرط المؤانسة، وأنه متى استحالت الموافقة فلابد من المفارقة، وهذا كما قرره القرآن بلفظه، فقد أشار إليه – والعلم عند الله- بأسرار رسمه...

فقد وردت كلمة (صاحبه) في سورة الكهف مرتين – في خلال مقطع ﴿۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ ....﴾...

الأولى من قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﳘ } [سورة الكهف:34].

والثانية من قوله سبحانه: { ﱛ ﱜ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ} [سورة الكهف:37].

۞ والملحظ: أن الأولى رسمت بألف معقوفة، غير فاصلة لأجزاء الكلمة هكذا {}، والثانية بألف فاصلة هكذا {} 

وهذا الرسم موافق –والعلم عند الله- لما تقرر آنفا من أن المجانسة شرط المؤانسة، ولابد من المفارقة متى استحالت الموافقة...

أما هذان الموضعان من سورة الكهف؛ فالأول حكاية لقول الكافر، فرسمت ألفه معقوفة إشارة لما يطويه في ضميره من الكفر والكبر، وكان حتى هذه اللحظة لم يظهر لصاحبه كفره، بدليل قول المؤمن له بعدها متفاجِئًا ( أكفرت).. فكان بينهما من الوئام ما ينتفي به الخصام، حتى جهر بما به جهر،، فلم يك بعد ما يوجب بينه وبين صاحبه المفارقة فجاءت حروفها متصلة لأنه لم يكن ظهر منه ما يوجب الفرقة.

وأما ثبوت الألف الفارقة الفاصلة لأجزاء الكلمة {}  في الآية الثانية -وهى لقول المؤمن- فدلالة على أنهما وإن التقيا أبدانا فقد افترقا اعتقادا وإيمانا..  

فالألف من {}  : ألف الاستعلاء بعقيدة الولاء والبراء، وألف المفارقة لاستحالة الموافقة.

۞ ومما يتسق مع هذا الملحظ –والله أعلم بمراده- قوله تعالى: {ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄﲅ ﲇ ﲈ ﲉﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ} [سورة لقمان:15].. فلفظ (وصاحبهما) رسم بألف الفصل؛ إذ الآية في حق الوالدين الكافرين، فرسمت الكلمة بألف فاصلة إشارة إلى أن تلك الصحبة لهما على غير موافقة لهما في الدين.

۞ وأما قول موسى للخضر-عليهما السلام-: {ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ} [سورة الكهف:76].. فرسمت بألف معقوفة غير فاصلة، لأنه لم يقع الفراق بعد، وإشارة كذلك إلى عدم رغبة موسى مفارقة الخضر، وأنَّى لأولي الأيدي والأبصار أن يزهدوا في النيل من بحار المعارف والنوار؟!!، وكذلك للدلالة على أنه وإن وقعت بينهما المفارقة البدنية؛ فقد جمعت بينهما المجانسة الإيمانية، فرسمت بألف معقوفة غير فاصلة إيماء إلى أن المؤمنين وإن افترقت أبدانهم؛ فقد تجانست وتآلفت وتآنست أرواحهم وقلوبهم.

فقد أخرج البخاري عن عائشة –معلقا-، ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله  قال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».

 

۞ وستجد هذا المعنى مطردا في مادة (صحب) في القرآن الكريم كله -والله أعلم بمراده-، فمواضع الوصل ستشير إلى لون من ألوان المجانسة –إما مكانية أو دينية أو جزائية-: فستجد جميع لفظ (أصحاب) مكتوبا بألف معقوفة غير فاصلة إشارة إلى لون من ألوان تلك المجانسة بين أصحاب كل وصف: {}، و{}، و{ و{ { { ﱅ ﱆ }، {}، { } ...

۞ وستلحظ ذلك في آية الغار في حق نبينا المختار  والصديق الأكبر رضي الله عنه،  وقد قال النبى  عنه: « ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ».. وعليه ستجد الكلمة رسمت بألف معقوفة غير فاصلة إشارة لما عليه الصديق رضي الله عنه من كمال الموافقة، وتمام المجانسة، وأحسنية المرافقة للنبى : {ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ} [سورة التوبة:40].

۞ وأما لفظ الصاحب العائد على شخص النبى محمد J: سيأتي بالألف الفاصلة حين يكون حديث القرآن إلى الكفار أو عنهم؛ دلالة على عدم المجانسة، وانتفاء الموافقة بين العقيدتين.

 وكأن الرسم يقول لهم: هذا الذي فارقتموه مبرأ عن وصم يستحق لأجلة المفارقة والفصل ...

{ﲌ ﲍﲎ ﲏ ﲑ ﲒﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ} [سورة الأعراف:184].

{ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ} [سورة سبأ:46].

{ﱅ ﱆ ﱈ ﱉ ﱊ} [سورة النجم:2].

{ ﲣ ﲤ} [سورة التكوير:22].

۞ وفي قول الكريم يوسف -عليه السلام- لصاحبى السجن : {                 ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ} [سورة يوسف:39].

{ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ} [سورة يوسف:41].

رسمت الكلمة في الموضعين بألف معقوفة إشارة لمجانسة المكان الجامع لهم، وإلماحا لتواضعه عليه السلام، وكمال أحسنيته في صحبتهم، وتلطفه بهم غاية التلطف، وتأنيسه لهم... وقد شهدا له عليه السلام بقولهما: ﴿إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ٣٦﴾.

 

۞ وكذلك لفظ صاحبته: ومعناه الزوجة، من قوله تعالى: { ﱍ ﱎ} [سورة المعارج:12]، وقوله: { ﳓ ﳔ} [سورة عبس:36]... ولا يخفى ما فيها من المؤانسة والمجانسة.

۞ أما قوله تعالى عن يونس عليه السلام: {ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ} [سورة القلم:48].. فصحبة يونس عليه السلام للحوت لم تكن صحبة جناس، بل كانت جزاءَ تَوَلِّيهِ عن قومه لما أحس منهم بالإياس، وإشارة لوجوب لزوم النبى J المفارقة لمثل تلك الحال التي أفضت بيونس –عليه السلام- إلى بطن الحوت.. وهى المشار إليها بقوله تعالى (ولا تكن ...).

وما ألطف ما قاله الشاعران في ذلك المعنى الجليل:

ما لي أرى الشَّمْعَ يَبْكي في مَوَاقِدِهِ...مِنْ حُرْقَةِ النَّارِ أم من فُرْقَةِ العَسَلِ؟

فأجابه آخر بقوله:

مَنْ لَمْ تجانِسْـــــــــــــــــهُ فَاحْذَرْ أَنْ تجالِسَه...ما ضَرَّ بالشَّمْعِ إِلَّا صُحْبَةُ الفَتْـــلِ 

هذا ما سمح به النظر الكليل، وسنح به العقل العليل الضئيل.. فإن وافق حقًّا فمن الله المنة وله المنّ ﴿وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ٤، وإن كانت الأخرى فأنا أول متبرئ منه، ومعرض عنه..

وبالله حولي واعتصامي وقوتي ... وما لي إلا ستره متجللا

فيا رب أنت الله حسبي وعدتي ... عليك اعتمادي ضارعا متوكلا

 

 

 

Comments

Popular posts from this blog

سورة الكهف ومنهج التزكية (١) الحمد على الكتاب

القرآن بين الفطر والأضحى