سورة الكهف ومنهج التزكية (١٠) تزكية المعتقد (١)

 سورة الكهف ومنهج التزكية (١٠)
تزكية المعتقد (١)

الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدًا...
والصلاة والسلام على من يسر الله القرآن بلسانه ليبشر به المتقين وينذر به قوما لدا...
وبعد؛

فمع المجلس العاشر من مجالس (سورة الكهف ومنهج التزكية)، وقوله تعالى: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا(٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ  كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ  إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا(٥) [الكهف: ٤-٥]
فبعد أن استفتح الله السورة بالحمد (الذي هو اعتراف الحامد بكمال المحمود والانقياد له بمطلق الحب) ثم عطف على الحمد بشارة الحامدين ﴿وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا(٢) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا(٣)، جاء في مقابلة ذلك نذارة هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب وينسبون له الولد، إذ أن ادعاء الولد لله سبحانه مناقض لحمده المقتضي لكماله المقدس سبحانه.

وقد دحض الله عز وجل افتراء الزاعمين أن له ولدا من خلال إثبات كمالات ذاته وصفاته، وحدانية وغنى وقهرا:

الواحد: 

فقال سبحانه: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  سُبْحَانَهُ  هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ٤ [الزمر: ٤]
قال ابن الأثير: من أسماء الله تعالى: الواحد، قال: هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر.
وهذا المعنى موافق لقول النبى صلى الله عليه وسلم : «كان الله ولا شىء معه» .
والله لا يتغير سبحانه، فهو الآن على ما عليه كان، وزعم الولد يقتضي التغير، والتغير محال في حقه سبحانه.
فالله واحد في ذاته، ولو كان كما ذكر هَؤُلَاءِ من أن له الولد، لم يكن واحدًا في الذات؛ لأن الولد جزء من الوالد، والتجزء محال في حقه جل وعلا.
وكذلك هو واحد في صفاته ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٌ، ولا خلاف أن الولد شبيه والده، والصاحبة من جنس زوجها، ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ  وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ  وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(١٠١) [الأنعام: ١٠١]،  والولد بلا ريب مماثل للوالد، وفي المماثلة اشتراك، والله جل جلاله ليس كمثله شىء، وقد ثبت فساد العالم بتوهم الاشتراك في تدبيره ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ  إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ  سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ٩١ [المؤمنون: ٩١]، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا  فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(٢٢) [الأنبياء: ٢٢].
ولذا ختمت الإسراء بحمده على عدم اتخاذ الولد، وانتفاء الشركة في الملك، أو اتخاذ ولى عن ضعف أو من ذل، وهو ملحظ لا يخفى في ارتباط خاتمة الإسراء بطالعة الكهف.
 
القهار:

قال الإمام الماتريدي في تفسيره:
والولد في الشاهد إنما يتخذ لأحد وجوه:
إما لوحشة أصابته فيستأنس به. 
وإما لحاجة تمسه فيستعين به على قضائها.
وإمَّا لغلبة شهوة فيقضيها فيتولد من ذلك الولد.
وإمَّا لوراثة ملكه بعد موته، وهو دائم باق لا يزول ملكه أبدًا.
وإمَّا للاستعانة والنصرة على أعدائه. 
واللَّه يتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك. (انتهى كلامه بتصرف يسير)
فمن احتاج لشىء من ذلك كان مقهورا لا قاهرا، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ  وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(١٨) [الأنعام: ١٨]

الغنى:

وقد رد الله على من نسب له فرية الولد بكونه الغنى سبحانه، وغنى الله غنًى ذاتىّ؛ فسبحانه غَنِىٌّ عن كل شىء، ولا يحتاج إلى شىء، كيف وهو خالق كل شىء؟! وله كل شىء؟! ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا  سُبْحَانَهُ  هُوَ الْغَنِيُّ  لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا  أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(٦٨) [يونس: ٦٨]
 
فالْغَنِيّ هُوَ الَّذِي لَا تعلق لَهُ بِغَيْرِهِ لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَات ذاته؛ بل يكون منزها عَن العَلاقة مَعَ الأغيار، فَمن تتَعَلَّق ذَاته أَو صِفَات ذاته بِأَمْر خَارج من ذَاته يتَوَقَّف عَلَيْهِ وجوده أَو كَمَاله فَهُوَ فَقير مُحْتَاج إِلَى الْكسْب، وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك إِلَّا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (المقصد الأسنى)
فالغنى الحقيقى هو الغنى عن الشىء لا بالشىء، فلا تكون له حاجة إلى شىء البتة، وهذا بإطلاقه لا يكون إلا لله سبحانه، لذا قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ
أما الغنى بالشىء فهو عين الفقر إلى ذلك الشىء، لذا قال النبى : «ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس»
وقد تقدم أن اتخاذ الولد إنما يكون لحاجة، والحاجة لون فقر، والفقر محال عليه سبحانه، لأنه الغنى جل جلاله.


* وهذه الثلاثة الأسماء المتقدمة قد تجلت دلالاتها في قول فتية الكهف ﴿إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا(١٤) هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا(١٥)
فقولهم ﴿ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ دلالة على وحدانيته وغناه.
وتكرارهم لفظ ﴿مِن دُونِهِ دلالة على فوقية قهره

فاللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله الواحد الأحد
الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
يا له الملك وله الحمد
نسألك اللهم بالصلاة والسلام على نبينا محمد
أن تغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات
اللهم حقق إيماننا..وثبت يقيننا..وأعذنا من مضلات الفتن
واختم اللهم لنا على توحيدك
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد
والحمد لله رب العالمين

Comments

Popular posts from this blog

سورة الكهف ومنهج التزكية (١) الحمد على الكتاب

لطيفة في الدلالة المعنوية لرسم اللفظ القرآني (صاحبه)

القرآن بين الفطر والأضحى