سورة الكهف ومنهج التزكية (٤) بصيرة في الحمد
سورة الكهف ومنهج التزكية (٤)بصيرة في الحمد
الحمد لله كما استفتح كتابه بحمد نفسه، الحميد الذي تنزهت عن النقص سبحات قدسه...
والصلاة والسلام على أحمد الخلق لربه، المعرف الخلق طريق أنسه...
وبعد؛
فهذه بصيرة في الحمد؛ انبعاثا من طالعة سورة الكهف ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ ... (١)﴾
معنى الحمد:
لغة:اشتقاق مادة (ح م د): يدل على امتلاء الباطن بما يناسبه.
يُقَالُ حَمِدْتُ فُلَانًا أَحْمَدُهُ. وَرَجُلٌ مَحْمُودٌ وَمُحَمَّدٌ، إِذَا كَثُرَتْ خِصَالُهُ الْمَحْمُودَةُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ.
الحمد اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: الحمد: هو الثّناء على الجميل من جهة التّعظيم من نعمة وغيرها.
وقال ابن القيّم: الحمد: إخبار عن محاسن المحمود مع حبّه وإجلاله وتعظيمه.
وقال الرّاغب: الحمد لله تعالى: هو الثّناء عليه بالفضيلة.
اسم الله (الحميد):
هو المحمود على كل حال، لإحاطة ذاته بصفات الكمال، وانتفاء الخلل عن قدس الأفعال، فهو الذي يحمد قي السراء والضراء، والشدة والرخاء، لأنه حكيم لا يجري في أفعاله الغلط، ولا يعترضه الخطأ، فهو الحقيق بوصف الحمد سبحانه، وباسم الحميد جل شانه.
مقامات الحمد:
وحتى يكون العبد لربه حامدا؛ لابد أن تكتمل فيه صنوف الحمد وأقسامه، وهى:
١) حمد مقال: وهو حمد اللّسان وثناؤه على الحقّ بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به أنبياؤه عليه، ووصفه بالجميل على جهة التّعظيم والتّبجيل باللّسان نطقا ولهجا ﴿وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ(١١)﴾.
٢) حمد فعال: وهو فعل ما يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما، ولأجل أنه مستحق بذاته للحمد، وذلك بتعظيم شعائره وحرماته، وبفعل الصالحات ابتغاء مرضاته.
٣) حمد حال: وهو الّذي يكون بتزكية النفس وتطير القلب؛ كالاتّصاف بالكمالات العلميّة والعمليّة والتّخلّق بالأخلاق السنية المحمودة العلية.
ولذا كان نبينا الأحمد محمد صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس بالمقام المحمود في اليوم المشهود، لتكميله مقام الحمد، ورسوخه فيه صلى الله عليه وسلم.
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-: «من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه لم يستتمّ ذلك حتّى يرى الزّيادة؛ لقوله تعالى ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾».
وقال ابن زيد -رحمه الله تعالى-: «إنّه ليكون في المجلس الرّجل الواحد يحمد الله- عزّ وجلّ- فيقضي لذلك المجلس حوائجهم كلّهم».
فالحمد قيد الموجود وصيد المفقود.
ومن أعظم ما يدل على جلال الحمد وارتضاء الله له، قول الإمام في صلاته (سمع الله لمن حمده).
ومما يدلك على شرف الحمد كذلك: ابتدار بضعة وثلاثين ملكا أيهم يكتب أول؛ لما قال رجل: ربّنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، وما ذلك إلا لعلمهم بموقعها عند ربهم، فيبتدر الملك العروج إلى الله بما فيه رضاه، لأن الصاعد بالرضوان لا شك سيصيبه من نفحات الرضوان العلية ﴿إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُ﴾.
ولأجل هذا المعنى –والله أعلم- قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- لرجل سلّم عليه: «كيف أصبحت؟ قال الرّجل: أحمد الله. فقال عمر: ذاك الّذي أردت».
وقال أبو عبد الرّحمن الحبليّ- رحمه الله تعالى-: «إنّ الرّجل إذا سلّم على الرّجل وسأله كيف أصبحت؟ فقال له الآخر: أحمد الله إليك، قال: يقول الملك الّذي عن يساره للّذي عن يمينه: كيف تكتبها؟ قال: أكتبه من الحامدين. فكان أبو عبد الرّحمن إذا سئل: كيف أصبحت؟ يقول: أحمد الله إليك وإلى جميع خلقه».
وقال بكر بن عبد الله المزني- رحمه الله تعالى-: «ما قال عبد قطّ الحمد لله إلّا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله فجزاء تلك النّعمة أن يقول: الحمد لله، فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد نعم الله»... ومَنْ فَهِمَ هذه العبارة ظهر له سر كون آخر دعوى أهل الجنة الحمد ﴿وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ(١٠)﴾، فإن الجنة زرق ما من نفاد، وقال الله عن نعيمها ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيۡنَا مَزِيدٞ(٣٥)﴾، فالتحميد وسيلة المزيد.
قال الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى-:
«إذا كان يوم القيامة نادى مناد: سيعلم الجمع من أولى بالكرم! أين الّذين كانت تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ؟ قال: فيقومون فيتخطّون رقاب النّاس. قال: ثمّ ينادي مناد: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم! أين الّذين كانت لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ؟ . قال: فيقومون فيتخطّون رقاب النّاس، قال: ثمّ ينادي مناد: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم! أين الحمّادون لله على كلّ حال؟ قال: فيقومون وهم كثير، ثمّ يكون التنعيم والحساب فيمن بقي».
وقال عبيد بن عمير- رحمه الله تعالى-: تسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن خير له من جبال الدنيا تجري معه ذهباً.
فاللهمّ ربّنا سبحانك لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلّمتنا وأنقذتنا وفرّجت عنّا
لك الحمد بالإسلام.. ولك الحمد بالقرآن.. ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة
كبتّ عدوّنا.. وبسطت رزقنا.. وأظهرت أمننا.. وجمعت فرقتنا.. وأحسنت معافاتنا.. ومن كلّ ما سألناك ربّنا أعطيتنا
فلك الحمد على ذلك حمدا كثيرا
ولك الحمد بكلّ نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سرّ أو علانية، أو خاصّة أو عامّة، أو حيّ أو ميّت، أو شاهد أو غائب
لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى
والحمد لله رب العالمين
Comments
Post a Comment