سورة الكهف ومنهج التزكية (5)بصيرة في الحمد
الحمد لله تقديسا لمجده، وتعظيما لجَدِّه، وتعرضا لمزيده ورِفده...
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خليله وعبده، المؤيد بمدده، والقائم بحمده...
وبعد؛
فمع تجديد العهد ببصيرة الحمد، وفاء بما أخذ علينا في سابق العقد، وتصحيحا للصلة بالله الأحد الفرد؛ فكما أن الحمد طالعة سورة الكهف، فهو كذلك طالعة الكتاب، وآية من الآى السبع المثاني العِذاب، فجاء الكتاب مُصَدَّرًا بما ينبغي التصدير به؛ إفرادا لله باستحقاق المحامد لذاته، ولحكيم فعاله، وقدسىِّ صفاته.
والحمد في أصله عنوان عظيم ينبئ عن مسألتين:
الأولى: الكمال.
والثانية: الختام.
ولذا كان في افتتاح هذه الرسالة بالحمد إنباء بأنها رسالة كمال وختام، فالقرآن جاء جامعا للكتب التي تقدمت، بل وخص بما يزيد عنها، فعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ» (مسند الإمام أحمد بسند حسن ).
۞ وكذلك كانت أسماء النبىِّ الخاتم صلى الله عليه وسلم عنوانا للحمد المشير إلى كماله صلى الله عليه وسلم، وحقيته برتبة الأسوة، وفيها أيضا الإشعار بأنه نبى الختام، ولا تختتم المعالي إلا بمسك التمام.
ففي تسميته صلى الله عليه وسلم بمحمد وأحمد الإعلام بأنه أكمل الأنبياء، وخاتمهم، ولذلك أخذ الله الميثاق عليهم ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(٨١)﴾
ومما يشهد لهذا المعنى حديت أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس؛ فقال الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم..." (حسن صحيح-سنن الإمام الترمذي)
فآدم هو آخر أجناس العالمين خلقا، وفي الختم بخلقه إشارة إلى أنه القائم بحق الخلافة في الأرض، لذا كان أول ما تكلم به حمد ربه، إعلاما بأنه خاتمة الخلق، وإيذانا بأنه المراد من الوجود، لذا كان إيجادُه بعد ما هُيِّئَتْ أمدادُه، ليكتمل إعدادُه، فيحصل إسعادُه.
۞ وفي الحديث دلالة على أن الحمد هو الغاية من إيجاد الخلق ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا٣﴾.
۞ وفيه كذلك الدليل على أن الحمد موجب الرحمة، فالإنسان مرحوم ما حمد، لذا جاء في الحديث الصحيح عند الإمام البخاري بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ، كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ "
فالعطاس محبوب إلى الله لأنه وسيلة للحمد، والحمد وسيلة الرحمة ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡ﴾ أى خلقهم ليرحمهم إذا حمدوه توحيدا، وبهذا المعنى يتضح وجه من وجوه صلة عطف ﴿ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ(٣)﴾ على ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ(٢)﴾.
۞ وفي تكرار اشتقاق الاسمين ﴿ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ(٣)﴾ من صفة الرحمة؛ بيان بأن الرحمة أقرب ما تكون من الحامدين، لأن حمد الله اعتراف بمنته وشهود لها منه سبحانه، والشهود هو مرتبة الإحسان، الذي هو (أن تعبد الله كأنك تراه)، وقد قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ(٥٦)﴾.
۞ وكذلك لما كانت الصلاة خير موضوع، وكانت هى العلامة الفارقة بين الإيمان والكفر (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، لما كانت الصلاة كذلك جاءت محفوفة بالتحميد الذي هو شعار التوحيد، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب - وهى سورة الحمد-، وفي الركوع تسبيح بالحمد، وبعد الرفع منه حمد، وفي السجود تسبيح بالحمد، فخصت خير الأفعال –وهى الصلاة- بخير الأقوال –وهى الحمد-، وذلك لأن الحمد ثمرة المعرفة والمحبة، لذا قال الله تعالى للكليم عليه السلام: ﴿إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ(١٤)﴾، فعطف الحمد المتمثل في الصلاة والذي هو ثمرة المعرفة على تعريفه له به سبحانه: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا﴾، فلا يصح حمد بغير معرفة، ولا تقبل معرفة بغير حب، والحمد شعار الحب وأمارته، قال الله جل وعلا: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ(٢٥)﴾ فهؤلاء عرفوا أن الخالقَ اللهُ ﴿لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ﴾، لكنهم لم يحمدوه توحيدا، فكانت معرفتهم كالعدم ﴿بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ(٢٥)﴾.
۞ ولذا كانت صلاة كل الموجودات تسبيح بالحمد، والتسبيح بالحمد لا يكون إلا من عارف، (فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِلَّا سَبَّحَ اللهَ بِحَمْدِهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ» قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، عَنْ أَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ قَالَ: الْكُفَّارُ شِرَارُ الْخَلْقِ ).
والتسبيح: تنزيه عما لا يليق، والحمد: إثبات ما يليق على وجه التحقيق.
وخير ما يختم به القول ويحمد، ما جاء في مسند الإمام أحمد، على لسان النبى الأحمد صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، دَعَا ابْنَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي قَاصِرٌ عَلَيْكُمَا الْوَصِيَّةَ، آمُرُكُمَا بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكُمَا عَنِ اثْنَتَيْنِ، أَنْهَاكُمَا عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ، وَآمُرُكُمَا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى، كَانَتْ أَرْجَحَ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا حَلْقَةً، فَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عَلَيْهمَا، لَفَصَمَتْهَا، أَوْ لَقَصَمَتْهَا، وَآمُرُكُمَا بِسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ،، وَبِهَا يُرْزَقُ كُلُّ شَيْءٍ » (مسند الإمام أحمد بسند صحيح).
فالزم أُخَىَّ قرع الباب بالأدب، وابسط يد الافتقار إلى مولاك الغنى بالطلب، فشيمة الكريم فتح الباب، لطريح الأعتاب، متقطع الأسباب... وقل:
اللهم إنا نسألك من المعرفة بك ما نحوز به حلاوة اليقين
ونسألك من الإخبات لك ما نحرز به برد التطمين
ونسألك من مدد غوثك ما ندخل به في رحاب ضمان التحصين
﴿إِنَّ وَلِـِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ(١٩٦)﴾
وصل اللهم وسلم وبارك على إمام العارفين، وسراج السالكين في مدارج معارج ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ(٥)﴾
والحمد لله رب العالمين
Comments
Post a Comment