سورة الكهف ومنهج التزكية (2) الحمد على النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم

سورة الكهف ومنهج التزكية (2)
الحمد على النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم

----------------------------------------------------------------------

الْحَمْدُ لِلَّهِ المنْفَرِدِ بِاسْمِهِ الأَسْمَى، المخْتَصِّ بِالْعِزِّ الأَحْمَى، الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ مُنْتَهًى وَلَا وَرَاءَهُ مَرْمًى...

والصلاة والسلام على أشرف الخلق عَرَبًا وَعَجَمًا، وَأَزْكَاهُمْ مَحْتِدًا وَمَنْمًى، وَأَرْجَحِهِمْ عَقْلا وَحِلْمًا، وَأَوْفَرِهِمْ عِلْمًا وَفَهْمًا، وَأَقْوَاهُمْ يَقِينًا وَعَزْمًا، وَأَشَدِّهِمْ بِهِمْ رَأْفَةً وَرُحْمًا...

فَمن آمَنَ بِهِ وَعَزَّرَهُ وَنَصَرَهُ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي مَغْنَمِ السَّعَادَةِ قَسْمًا...

ومن كَذَّبَ بِهِ وَصَدَفَ عَنْهُ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشقاء حتما ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ﴾ 

وبعد؛

 فافتتاح سورة الكهف بالحمد يقوم على أصلين: 

1. حمد الله على إنزاله الكتاب.

2. وحمده على كون هذا الكتاب منزل على عبده محمد ﷺ.

ورسول الله ﷺ هو منة الله ورحمته التي امتن بها على خلقه أجمعين، وخَصَّ بالقدح المعلّى من هذه المنة عباده المؤمنين؛ ففي الخاص قال سبحانه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(164)﴾، وفي العامِّ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)﴾.

ويكفي المؤمن في شهود هذه المنة الإلهية بالبعثة المحمدية أن يعرف أن في تعرضه لذكر رسول الله ﷺ تَعَرُّضًا لذكر الله ﴿وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ﴾، فبصلاتك عليه صلى الله عليه وسلم واحدة؛ صلاة الله عليك عشرا، وبهذه الصلاة السنية البهية من الله علينا تتبدل المخاوف أمنا، وتتنزل الألطاف العِذابُ صَونا، وتنمحي ظلمات النفس وحنادس الرجس إنارة وعونا ﴿هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمًا(43)﴾.

وتالله لو بذلت الأعمار وعُمِرَت الأوقات بالصلاة والسلام على خير الكائنات وسيد الموجودات صلى الله عليه وسلم لأجل نيل العبد صلاة واحدة من الله عليه؛ لكان فضل الله أكبر، فكيف وقد جازاك بالواحدة عشرا ﴿وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ(3)﴾.

ومن بركات الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ أن يحصل للعبد ثلاثة أمور:

1. نَيْلُ ذكرِ الله ﴿فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ﴾ ومن ذكره اللهُ فقد رفعه، ومن رفعه الله فلن يَتَّضِع.

2. نَيْلُ صلاة الله، ومن صلى الله عليه فلا يَنْقَطِع.

3. نَيْلُ تسليم الله، ومن سلَّم الله عليه فهيهات أن يُرَوَّع.

وهذا بلا ريب مستوجب للحمد على الصلة بأكمل عبد صلى الله عليه وسلم... فلله الحمد.  

وقد نعى الله عز وجل على من لم يعرف هذا الرسول المكرم فقال سبحانه: ﴿أَمۡ لَمۡ يَعۡرِفُواْ رَسُولَهُمۡ فَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ(69)﴾،

فكان من حقه ﷺ أن يُعْرَفَ بما عَرَّفَه به ربُّه، وبما أوحى إليه أن يُعَرِّفَ به نفسه...

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ» (صحيح الإمام البخاري)

والأسماء تحمل سمات المسمى، ونعته المنمى...

فمحمد...

 لأنه حوى المحامد خَلْقا وخُلُقا، ومحتدا ومنمى، وحاشاه عيبا ووصما، فحُمِد مرة بعد مرة.

وأحمد...

 لأنه أحمد الخلق (أى أعبدهم) لربه، فهو أعلم الخلق وأعرفهم بربه وهو أشد الكل لله خشية.

وبهذين الاسمين وذينك الوصفين استحق ﷺ أن يكون له المقام المحمود في اليوم المشهود، وهو مقام الشفاعة لجميع الخلق لبدء الحساب، حين يخر ساجدا حامدا تحت العرش؛ فيفتح عليه بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله ﷺ، ولتحققه ﷺ بكمالات وصف الحمد خُصَّ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، وَبِلِوَاءِ الْحَمْدِ، وَشُرِعَ لَهُ الْحَمْدُ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَبَعْدَ الشُّرْبِ، وَبَعْدَ الدُّعَاءِ، وَبَعْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وعند اقتراب انقضاء الأجل، وَسُمِّيَتْ أُمَّتُهُ بالْحَمَّادِينَ، فَجُمِعَتْ لَهُ مَعَانِي الْحَمْدِ وَأَنْوَاعُهُ ﷺ.

والماحي...

لأن الله محا به الظلمات كُفْرا ونُكْرا وغدرا ومكرا، ليستبدلها بالنور الأرقى رسالة وهداية ومنهاجا وشرعا، وفي سير أصحاب رسول الله ﷺ البرهان الأتم على هذا الاسم، وقد وصف الله حالهم قبل بعثة نبيهم ﷺ فقال ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ﴾ والضلال المبين هو الذي استحكمت ظلمته، حتى بلغ الهوة السحيقة من الإغراق في الإحراق أبعد ما يكون عن معالم الإشراق، إلى أن بعث اللهُ نورَه المبينَ محمدًا ﷺ، فمحا بمبين نوره مبينَ ضلالهم ﴿لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُون﴾.

والحاشر... 

لأنه أول من تنشق عنه الأرض، وهو أول من يستقبل يوم الخلد، والناس بعد ذلك على إثره ﷺ، ولما كان رسول الله ﷺ هو المثال الأحق للحق؛ كان أولَ مبعوثٍ يومَ الحق.

والعاقب...

نفى للمعية، ونفى للبعدية.

فلا رسول معه، ولا نبى بعده ﷺ، فهو الخاتم.

وكما في وصف العاقب دلالة على ختاميته؛ ففيه دلالة أيضا على عالمية رسالته، لأنه ما من أمة إلا وقد بعث الله فيها رسولا، فلما لم يكن بعد رسولنا من رسول ولا نبى؛ دلَّ على أنه مبعوث للعالمين، وبما أنه مبعوث للعالمين إنسا وجنا؛ فرسالته أكمل الرسالات وأتمها؛ لذا سمى بالعاقب ﷺ.

فمحمد وأحمد: حِلْيَتُه، والماحي: وظيفته، والحاشر: مقامه، والعاقب: مَزيَّتُه وخِصِّيصَتُه.

فهذا في مقام التعريف ببعض أسمائه الدالة على جوامع شمائله ﷺ

أما في مقام حقه ﷺ، فمن الممكن إجماله في أربعة أركان:

التَّوَلِّي... والتَّحَلِّي... والتَّسَلِّي... والتَّمَلِّي.

أما التَّوَلِّي: فهو الاعتزاز بشرف الانتساب إليه ﷺ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلًا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ(33)﴾.

والتَّحَلِّي: فباتّباع هديه، والتمسك بسنته وسمته، والتزكي بمكارم أخلاقه وكرائم شمائله ﷺ.

والتَّسَلِّي: فبالاعتزاء بما أصابه في جنب الله، فقد أوذى ﷺ وسلم وابتلى فما استكان وما وهن ولكنه ثابر وصبر ﷺ، وهذا هو أجل معاني التأسي، فالأسوة: هو القدوة في مقام الصبر على المصائب ابتداء.

وبهذا نفهم سر اختتام الكتاب بالمعوذات، إلماحا لما لاقاه ﷺ من صنوف المحن والبلايا حسدا وحنقا من مناوئيه إنسا وجنا، كما فيه الإشارة إلى أنه من تحمل هذا الوحى لن يعدم حسد إنسى حاسد، ولا كيد شيطان مارد، قال الله عز وجل: ﴿وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ(51)﴾، وقال ورقة بن نوفل: "ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي".

والتملِّي: بأن تمتلئ باطنا بمحبته، وترتوي على الدوام بمطالعة سيرته، ومدارسة سنته، إذكاء لجذوة الحب مخافة أن تخبو في القلب؛ إذ هى أمارة كمال الإيمان ووسيلة الالتذاذ بطعمه؛ كما في الحديث: "وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".

فتعلم سيرة رسول الله ﷺ وتعليمها، والاستمساك بهديه الشريف المنيف؛ هو من مقتضيات حمد الله وشكر نعمته علينا ببعثة رسوله الكريم فينا ﷺ، ومتى كان الاحتفاء برسولنا ﷺ والاحتفال على ذاك المنوال: من إبراز شمائله واقتفاء كريم آثاره وسنى الخصال؛ فلا مجال حينئذ للخصام والجدال.

﴿وَإِن جَٰدَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَعۡمَلُونَ(68) ٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ(69)

فاللهم اجعل شرائف صلواتك، ونوامى بركاتك،

وفواضل تسليماتك، وكوامل تحياتك

على عبدك ونبيك، وحبيبك وصفيك، وخليلك ونجيك، ورسولك ووليك

الذي لقنته أن يقول ﴿إِنَّ وَلِـِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ(169)

والحمد لله رب العالمين


Comments

Popular posts from this blog

سورة الكهف ومنهج التزكية (١) الحمد على الكتاب

لطيفة في الدلالة المعنوية لرسم اللفظ القرآني (صاحبه)

القرآن بين الفطر والأضحى