سورة الكهف ومظاهر الربوبية
سورة الكهف
ومظاهر الربوبية
الحمد لله الذي وسعت كل شىء ربوبيتُه...
والصلاة والسلام على من كَمُلَ لله خضوعُه وعبوديتُه...
وبعد؛
فإن ترتيب سور المصحف على هذا النحو الذي بين أيدينا هو أحد أوجه إحكام القرآن الكريم وإعجاز نظمه، لا أقول نظم الآية في جوار أختها، بل أقصد نظام ترتيب السور بعضها تلو بعض، فلعمر الله إنه لأبهر من النسيج الموضون، وسمط اللألئ الموزون.
هذا وقد ختمت سورة الإسراء بآية كانت بمثابة الدرة الحاوية الجامعة المجمِلة لما سيتم تفصيله ونشره في مجموع سورة الكهف، فقال سبحانه: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(١١١)﴾ [الإسراء: 111]،فتضمنت الآية حمد الله سبحانه على ثلاث: عدم اتخاذ الولد، وانتفاء الشريك، والاستغناء عن اتخاذ ولى من الذل، وتقييد انتفاء الولى بقوله (من الذل): إفهاماً بأن له أولياء جَادَ عليهم بالتقريب وجعلهم أنصاراً لدينه رحمة منه لهم لا احتياجاً منه إليهم.
﴿وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا(١١١)﴾: للدلالة ما تقدم من أنه تعالى هو الكامل وما عداه ناقص؛ فاستحق التكبير، ولذا عطف عليه قوله سبحانه (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وفي الأمر بذلك -بعد ما تقدم مؤكَّدا بالمصدر المنكَّر من غير تعيين لما يُعَظَّمُ به تعالى- إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة، ولا تفي به القوة البشرية، وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، فلم يبق إلا الوقوف بأقدام المذلة في حضيض القصور والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور.
فكانت هذه الآية جامعة شاملة لمشهد كمال الربوبية المطلق.
والمعنى الاشتقاقي لمادة (ر ب ب) –التي منها اسم الرب-: لزوم الشىء والإقامة عليه بغرض إصلاحه وتنشئته شيئا فشيئا، ويقال لمن قام بمصالح شىء وإتمامه: قد رَبَّه يَرُبُّه فهو رب.
فالرَّبُّ لغة: من أنشأ الشىء حالا فحالا إلى حد التمام وقام على إصلاح شئونه وتولي أمره بانتظام.
والرب سبحانه: هو المنفرد بالخلق إيجادا وإمدادا، ومالكُهم المتكفل بتدبير أمورهم، وتقدير أحوالهم، والقيام على شئونهم، واللطف بهم، والهداية إلى ما فيه صلاحهم، وتهيئة الكون لتحقيق الغاية من خلقهم، المتولي القضاء والحكم بينهم سبحانه جل وعلا.
قال عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)﴾ [الأعراف: 54] .
والربوبية تقوم على ركنين: الأول_ إفراد الله بالخلق، والثاني_ إفراده بالأمر.
فالخلق: الإحياء والرزق والرعاية والتدبير والمِلك.
والأمر: الشرائع والرسالات المصلحة المرشدة للخلق.
وبما أن الخلق له إيجادا ومِلْكًا، فهو الحقيق الأوحد بأن يكون له الأمر، وإلا كانت القسمة ضيزى!!!
لذا كان أول ما كلم الله به موسى أن قال:﴿إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ﴾؛ وهو معنى ﴿أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ﴾، ثم أمره فقال له ﴿وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ١٣﴾؛ وهو معنى أن له الأمر.
والمعنى: إني أنا خالقك فاستمع وامتثل لما به آمرك.
وهذا هو الذي أدركه فرعون بعينه حين حاور موسى –عليه السلام- ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)﴾ [الشعراء: 23-29]...
فانظر كيف استفتح فرعون مجادلته بالاستفهام عن معنى الرب، فلم يخرج جواب موسى عليه السلام عن معاني الربوبية وآثارها حتى توعده فرعون بقوله (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي)، وهو دليل قاطع على أن فرعون فهم أن من مقتضيات ربوبية الله للخلق أن يفردوه بالألوهية –أى بصرف العبادة له وحده سبحانه-، وهو معنى (ألا له الخلق والأمر).
ومن هنا لما ختمت سورة الإسراء بتلك الآية الدالة على كمال الربوبية المطلق؛ جاءت سورة الكهف تُعْنَى ببيان مظاهر الربوبية تفصيلا، حتى إنه مما سيسترعي انتباهك -عند تلاوتك لسورة الكهف- محورية لفظ (الرب) في جميع مشاهد السورة، بحيث ارتكزت عليه جميع أجزائها...
وسر ذلك التكرار للفظ الرب في سورة الكهف – والله أعلم-:
1. إبطال زعم النصارى ألوهية المسيح ابن مريم.
2. إبطال زعم المسيح الدجال أنه هو الرب.
لذلك استفتحت السورة بإنذار أصحاب الزعم الأول فقال سبحانه: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا٤ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥)﴾ [الكهف: 4-5]، وكان قراءة العشر الفواتح منها حرزا من صاحب الزعم الثاني كما أخبر به المعصوم صلى الله عليه وسلم.
كما أنه في هذا المطلع ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤)﴾ بيان للقضية التي ستتناولها السورة من اللحظة الأولى.
والسر في معالجة قضية نفى زعم اتخاذ الله للولد من خلال تقرير مظاهر الربوبية وتكرير لفظ (الرب): هو الخلل الناشئ في معتقد النصارى بربوبية المسيح، ومن ثم استحقاقه للألوهية بزعمهم – وذلك لأن الله سبحانه أعطى المسيح ما ذكر لنا من آيات إحياء الموتى وخلق الطير ونفخ الروح فيها فتكون طائرا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص، وإنبائهم ببعض الغيبيات الجارية في بيوتهم ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡ﴾، أو على معنى أنه يخبرهم بما به يدبرون معاشهم فيما يستقبلونه من أزمنتهم.
ولذلك لما يتكلم المسيح ابن مريم –عليه السلام- عن هذه الآيات يستفتحها بقوله ﴿أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ﴾، ويعقبها بقوله ﴿وَجِئۡتُكُم بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ﴾، وذلك دفعا لتوهم أن ذلك يحصل منه بذاته، بل يؤكد لهم أن هذه الآيات التي جاء بها إنما هى من عند الله ربهم...﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)﴾ [آل عمران: 49-51]
ولذا تجد أن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام دائما يواجه بني إسرائيل ويصحح معتقدهم بتأكيد وتكرار أن الله هو ربه وربهم:
ففي سورة آل عمران يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)﴾.
وفي المائدة: ﴿... وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢)﴾.
وفيها أيضا: ﴿ وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡ﴾.
وفي سورة مريم يقول: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(٣٦)﴾.
وفي الزخرف: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)﴾.
ومن هنا كانت دعوة الإسلام لأهل الكتاب هى نبذ اتخاذ الأرباب من دون الله ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(٦٤)﴾ [آل عمران: 64]
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(٨٠)﴾ [آل عمران: 79-80]
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ٣٠ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾ [التوبة: 30-31]
فكل ذلك يؤكد أن أساس الخلل عند النصارى ناشئ عن الخلل في فهم معنى الربوبية.
ولما كانت الرحمة هى أحد مظاهر الربوبية جاءت سورة مريم -التي هى بعد الكهف- مرتكزة على اسم الرحمن، لتؤكد انتفاء ربوبية عيسى عليه السلام من خلال هذا الاسم الذي لم يتسم به غير الله سبحانه.
وكذلك لما كانت القيومية من لوازم الربوبية تكرر في سورة مريم لفظ حمل عيسى عليه السلام ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢)﴾ [مريم: 22]، ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ [مريم: 27]، وأشار إلى ذلك النبى صلى الله عليه وسلم في حديث نزول عيسى آخر الزمان فقال صلى الله عليه وسلم: "... فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ..."، وكونه نازلا واضعا يديه على أجنحة ملكين إشارة إلى عدم قيوميته بذاته، فكيف لمن لا يستطيع أن يكون قيوما بنفسه لنفسه؛ كيف يكون قادرا على إقامة أمر غيره؟!!
وكذلك لما كان المِلك من لوازم الربوبية؛ نفى الله ربوبية عيسى بمقتضى هذا المِلك ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)﴾[المائدة: 17].
ونفس هذا الخلل في فهم معنى الربوبية هو الذي بسببه يجد المسيح الدجال أتباعا له؛ وذلك كونه يخرج في سنوات جَهْدٍ وجَدْبٍ ومجاعة، يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض كيعاسيب النحل (كجماعة النحل)، معه واديان: أحدهما جنة ،والآخر نار، فناره جنة، وجنته نار، ويقتل الشاب الموحد، ثم يحييه، ويزعم أنه يحيي الموتى....... قال النبى صلى الله عليه وسلم: " ... وَإِنَّهُ سَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَمَنْ قَالَ: لَسْتَ رَبَّنَا، لَكِنَّ رَبَّنَا اللهُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْهِ أَنَبْنَا، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ ".
ومن هنا جاء لفظ الرب باشتقاقاته موفورا في سورة الكهف لمعالجة الخلل العقدي عند ﴿ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا٤﴾ في ضوء هذا الاسم المبارك، وتقريرا بأنه وحده الذي له الخلق والأمر...
ففي إفراده بالخلق وتدبير شئونه يقول: ﴿مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ﴾
﴿وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا٥٢﴾.
وفي حقيته إفراده بالأمر يقول: ﴿وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا٥٥ وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا(٥٦) وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ﴾.
ويقر فتية الكهف بإفراد ربوبيته خلقا وإيجادا؛ المستلزمة لإفراد ألوهيته طاعة وتعبدا وامتثالا ﴿فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا (١٤) هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا (١٥)﴾.
وبهذين الإقرارين لله ربوبيةً وألوهيةً يحاور المؤمنُ صاحبَ الجنتين فيقول: ﴿أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا (٣٧) لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا (٣٨)﴾.
ومن خلال هذين الإقرارين تأتي فعال الخضرُ عليه السلام مشتملة على معنى إفراد الله بالربوبية فيقول: ﴿رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَ﴾ أى أن جميع ما جرى من إرادة المصالح لأصحاب السفينة، والوالدين، واليتيمين؛ إنما هو مشهد من مشاهد رحمانية الربوبية، ثم يعطف بما يدل على إفراده لله بحق الألوهية فيقول ﴿وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِي﴾ أى أن ما جرى مني ليس ناشئا عن محض إرادتي، بل هو امتثال أمر ربي المتفرد بحقية الأمر والنهى التي هى من مظاهر الألوهية.
وما قاله الخضر عليه السلام هو بعينه ما أقر به ذو القرنين حيث نسب ما أوتيه من قوة ومكنة إلى ربه إقرارا منه بربوبية الله التي من لوازمها تدبير مصالح الخلق ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ﴾، ولما أتم بناء الردم ﴿قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّي﴾...
ثم ختم بما يشهد بإقراره لله بألوهيته فقال ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا (٩٨)﴾، ووَعْدُ الله هو أمره سبحانه؛كقوله عز شأنه ﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ﴾.
(وثَمَّ مواضع كُثُر بالسورة تدرك بها هذا المعنى حيال تلاوتك للسورة المباركة بمحض تتبعك للفظ الرب واشتقاقاته، وهو ما أرجوه منك لك)
لتستوثق في الختام عروة الإيمان بأنه سبحانه ﴿لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُ﴾
فهو المتفرد ربوبية ﴿مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّ﴾
وهو المتفرد ألوهية ﴿وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا (٢٦)﴾
﴿إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا (١١٠)﴾
Comments
Post a Comment