﴿ٱلۡحَقُّ﴾

سورة الكهف

 (ٱلۡحَقُّ)

الحمد لله الذي لا يخفى عليه شىء في الكون وإن دقّ..

والصلاة والسلام على من رفق بأمته وما شقّ..

وبعد؛

فمع الوصف الرابع لكتاب الله وفق ما ورد في سورة الكهف المباركة القيمة، ألا وهو ﴿ٱلۡحَقُّ..

قال الله جل وعلا: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡ قال مقاتل: يعني القرآن.

ومعنى مادة (ح ق ق): تمكن الشىء وثبوته ومكثه وإحكامه وصدقه.

والحق في كل شىء مطابِقُه ومساويه، فهو في القول: صدقه ومطابقته للواقع المخبَر عنه، وفي الفعل: صلاحه ومطابقته للمنهج السَّوِىِّ، وفي الحكم: عدله ومطابقته لقوانين الإنصاف. 

وهو نقيض الباطل.


ومادة (ب ط ل) تعني: ذهاب الشىء هدرا، وقلة مكثه ولبثه.

ويقال بطل الشىء: إذا ذهب ضياعا وخُسرا، ولذا سمى الشيطان بالباطل: لأنه لا حقيقة لأفعاله كما أخبر الله عنه بقوله: ﴿وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِي.....(٢٢)، ومنه سميت السحرة بالبطلة لأنه لا حقيقة لأفعالهم، كما قال سبحانه: ﴿قُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَمَا يُبۡدِئُ ٱلۡبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ(٤٩).

ويشهد للمعنيين المثلُ المضروب لهما في سورة الرعد؛ قال جل شأنه: ﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ(١٧)

أما كون القرآن هو الحق؛ فلأمور:


باعتبار مصدره: فهو من الله، والله هو الحق، وهو كلام الله ﴿وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ، ولذا فلا يحول حوله ريب، ولا يتطرق إليه شك.

ومن هنا انتفى الباطل أن يأتيه، فلا يتطرق إليه، ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات؛ فلا يزاد فيه ولا ينقص، فهو كاسمه ثابت بنفسه، حقيق بأن يوجد وأن يكون، جدير بما أسند إليه ورتب عليه.


وباعتبار مضامينه: فقصصه الحق: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّ﴾، ﴿نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ﴾، ﴿يَقُصُّ ٱلۡحَقَّ﴾.

وقضاؤه الحق: ﴿وَٱللَّهُ يَقۡضِي بِٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَقۡضُونَ بِشَيۡءٍۗ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ(٢٠).

 ووعده الحق: ﴿وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗا.


 وحكمه الحق: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ... (١٠٥)﴾ ﴿فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ


وباعتبار آثاره: ﴿قَالُواْ يَٰقَوۡمَنَآ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٖ مُّسۡتَقِيمٖ(٣٠)﴾ فالله خلق السموات والأرض بالحق، وأنزل الكتاب بالحق؛ فلا انسجام مع الكون المخلوق بالحق إلا باتباع الحق المنزل اعتقادا وعملا. 


ولذا كان ظهور الفساد في البر والبحر أثرا من آثار الانحراف عن هذا الحق المنزل من الحق بالحق ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ(٤١)﴾ لعلهم يرجعون إلى الحق، وذكرت الآية البر والبحر ولم تذكر السماء لأنها سقف محفوظ عن تطرق الباطل إليها، وأهل السموات هم أهل الحق ﴿لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ(٢٧)﴾ ﴿لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ(٦)﴾ لذا كانت السماوات مصونة عن تطرق الباطل إليها أو طروء الفساد عليها. ولذا أهبط الله عز وجل إبليس منها  ﴿قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ(١٣)﴾، وقوله سبحانه: ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ لأنها خلقت مصونة عن تطرق الفساد إليها، والفساد نتاج مخالفة الحق، ولذا أهبط منها آدم عليه السلام لما ذاق الشجرة. 


وكذلك لما  كان الاستغفار شعار الرجوع إلى الحق كان من آثاره محو ما ظهر من الفساد الذي هو أثر اتباع الباطل، وكان الاستغفار مظهرا من مظاهر الانسجام بالحق مع الكون المخلوق بالحق، لذا كان من آثاره إدرار السماء، وإزهار الأرض، وامتلاء الأبدان قوة وعافية.  


۞ وفي دلالات معنى الحق – من أنه تمكن الشىء وثبوته ومكثه وصدقه - يقول الإمام الرازي في التفسير الكبير:

(أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ كَمَا أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، وَهَذَا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَشْيَاءَ لَا تَزُولُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَعَلَى تَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ وَتَقْرِيرِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ، وَمُشْتَمِلٌ أَيْضًا عَلَى شَرِيعَةٍ بَاقِيَةٍ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا النَّسْخُ وَالنَّقْضُ وَالتَّحْرِيفُ، وَأَيْضًا فَهَذَا الْكِتَابُ كِتَابٌ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ عَنْ تَحْرِيفِ الزَّائِغَيْنِ وَتَبْدِيلِ الْجَاهِلِينَ كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ(٩) فَكَانَ هَذَا الْكِتَابُ حَقًّا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ).  –انتهى-


ولما كان الله هو الحق، وكتابه الحق؛ كان أهل القرآن هم أحق الخلق بأن يكونوا أهل الله وخاصته، لأنهم آمنوا بالحق ودرسوا الحق وعملوا بالحق وعلموا الحق، فكانوا أتم من حقق المراد من الإيجاد، فكانوا الأحق بنيل أشرف منازل الإسعاد –جعلنا الله بمنه منهم إنه هو البر الرحيم-.


لذا كان شقاء الناس يرجع في الأساس لغفلتهم عن هذا الحق المبين... 

﴿وَالْعَصْرِ(١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(٣)

 

رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ

رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ

رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَ‍َٔامَنَّا

رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّ‍ٔئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ

رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ

وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد خير العباد

شفيعنا المكرم يوم التناد

والحمد لله ملء السبع الشداد والسبع المهاد

حمدا طيبا مباركا لا يلحقه النفاد


 صاحب القرآن

نديم فرج خطاب

 

Comments

Popular posts from this blog

سورة الكهف ومنهج التزكية (١) الحمد على الكتاب

لطيفة في الدلالة المعنوية لرسم اللفظ القرآني (صاحبه)

القرآن بين الفطر والأضحى