قَيِّمٗا
سورة الكهف
﴿قَيِّمٗا﴾
الحمد لله الذي أنزل إلينا الكتاب قيمًا...
والصلاة والسلام على من أرسله الله للخلق كافة تاليًا ومُزكّيًا ومعلّمًا...
وبعد؛
فإن الناظر في كتاب الله عز وجل لا تنقضي نهمته ، ولا ينقطع عجبه مما يطالعه من بدائع آياته واصطفاء كلماته مع استيفاء مراداته، فتراه لا تحيف وجازته على سعة معانيه وإحاطتها، ولا يؤثر إجماله على تفصيله وبيانه، فهو إيجاز في إعجاز.. ﴿قُرۡءَانًا عَجَبًا﴾..
ونحن بصدد الوصف الثاني لكتاب الله عز وجل على ما ورد في سورة الكهف، وهو قوله سبحانه ﴿قَيِّمًا﴾، وهذا الوصف على وجازته إلا أنه استوفي حظا وافرا من خصائص وميزات هذا الكتاب المجيد.
والأصل الاشتقاقي لمادة قيما (ق و م) ومعناه: أصل يدل على انتصاب الشىء إلى أعلى ثابتا.
ويتفرع من هذا الأصل معانٍ وافرة؛ منها -على ما ورد في معاجم اللغة- :
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى مصلحا وحافظا وسائسا لأمورهم:
كقوله تعالى: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾ لأَنهم قائمون على مصالحهن، مُتكفِّلون بأُمورهن، مَعْنِيُّون بشؤونهن؛ وكقوله: ﴿إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمًا﴾ أى ملازما محافظا. وَمِنْهُ قِيلَ فِي الْكَلَامِ لِلْخَلِيفَةِ: هُوَ القائِمُ بالأَمر، وَكَذَلِكَ فُلَانٌ قَائِمٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ حَافِظًا لَهُ مُتَمَسِّكًا بِهِ.
وعليه فمعنى (قيما): أنه القَيَّامُ بمصالح الْخَلْقِ وَسَعَادَةِ الْعَالَمِ فِي جَمِيعِ أَحواله لكمال منهجه ولاشتماله على معالى القيم، وهو عِمَادُهُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ، لذا كان من أشراط الساعة رفع القرآن من الصدور والسطور، لأن قيام القيامة هو دمار هذا العالم وتقوض بنائه، ولا يمكن حصول ذلك في وجود هذا الكتاب الحفيظ، وذلك كما قال الله عن الكعبة المشرفة: ﴿جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡيَ وَٱلۡقَلَٰٓئِدَ﴾ أى أن وجودها في الأرض سبب لقيام معايشهم ومصالحهم، فلذا كان من أشراط الساعة أن يهدم البيت، ويحصل ذلك حين يفسد الناس، ويعرضوا عن كتاب الله وعن بيت الله الَّذَينِ هما سر بقاء الدنيا، لأن الدنيا خلقت لإقامة التوحيد، والقرآن هو رسالة التوحيد، والكعبة شعار التوحيد، لذا كان من قدر الله الكوني رفع الكتاب وهدم البيت إيذانا بحلول الساعة، وذلك حين لا يقال في الأرض: الله الله.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى دائما:
يقال أَقَامَ الشَّيْءَ: أَدامَه، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ،
وذلك أنه الكتاب الخاتم، والرسالة الخاتمة لكل ما تقدم، فلا رسالة بعده، ولا كتاب يعقبه فينسخه.
وكذلك هو الكتاب الخالد، والنعيم الآبد؛ يلتذ أهله في الجنة بصحبته، ويرتقون في الجنة صُعُدًا بتلاوته؛ فعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: " يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ". (صحيح/ مسند الإمام أحمد)
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى سيدا ومهيمنا وشاهدا:
قال الله تعالى ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِ﴾ مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها، قاضياً وحاكما عليها، ناسخاً لها.
ولذا تجد القرآن يتحداهم عند كذبهم بالإتيان بالتوراة ﴿قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ(٣٩)﴾
قال الإمام البقاعي -رحمه الله-: (﴿وَمُهَيۡمِنًا﴾ أي شاهداً حفيظاً مصدقاً وأميناً رقيباً ﴿عَلَيۡهِ﴾ أي على كل كتاب تقدمه - كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما- وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها، فما كان فيها موافقاً له فهو حق، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ أو مبدل فلا يعبر، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين، فملته ناسخة لجميع الملل، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه).
وكونه قيما أى شاهدا؛ فلأنه كما قال رسول الله ﷺ : "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ"، وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ -أى خَصِمٌ مجادل-، فَمَنْ جَعَلَهُ أمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ قَادَهُ إِلَى النَّارِ»، وهو معنى قوله تعالى: ﴿قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأۡسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنًا(٢)﴾.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى قصدا :أى مبينا سهلا قريبا:
أما من حيث لفظه وتلاوته: فقد تعاطاه الصغير والكبير، وحفظه العربى والأعجمى، ولعمر الله هذه خصيصة لم يظفر بها إلا القرآن، لتكون شاهد عدل وآية صدق على قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٍ(٧١)﴾، يقول الإمام البقاعي في تفسير هذه الآية: (فالمعنى: أنَّا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلا،ً لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به؛ فكان في ذلك إعجازان: أحدهما أنه فوق بلاغتهم، والثاني أنه مع علوه يشترك في أصل فهمه الذكي والغبي).
ويقول الإمام الماوري في أعلام النبوة: (والوجه السادس عشر من إعجازه: تيسيره على جميع الألسنة حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يُحْفَظُ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها به، وما ذاك إلّا بخصائص إلهية، فَضَّلَه بها على سائر كتبه)
وأما من حيث تشريعه: فقد قال سبحانه: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ(٦)﴾، وقال جل وعلا:﴿هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٍ﴾، وقال عز شأنه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ﴾، وقال جل جلاله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (صحيح البخاري)
يقول الإمام الزرقاني في مناهل العرفان متحدثا عن إعجاز القرآن في يسر تشريعه: (ترتيبه الأوامر والنواهي ترتيبا يسع جميع الناس على تفاوت استعدادهم ومواهبهم، فالأوامر الدينية درجات هذا إيمان وهذا إسلام، وهذا ركن وهذا فرض وهذا واجب وهذا مندوب مؤكد وهذا مندوب غير مؤكد، والمناهي كذلك درجات هذا نفاق وهذا شرك وهذا كفر وهذه كبيرة وهذه صغيرة وهذا مكروه تحريما وهذا مكروه تنزيها وما وراء هذه الأوامر والنواهي فمباحات لكل أن يأخذ وأن يدع منها ما شاء.
ولا ريب أن وضع التشريع على هذا الوجه فيه متسع للجميع وفيه إغراء للنفوس الضعيفة أن تتشرف باعتناق الإسلام ولو في أدنى درجة من درجاته حتى إذا أنست به وذاقت حلاوته تدرجت في مدارج الرقي فمن إيمان إلى إسلام إلى أداء ركن إلى أداء فرض إلى أداء واجب إلى أداء مندوب غير مؤكد ومن ترك نفاق إلى ترك شرك وكفر إلى ترك كبيرة إلى ترك صغيرة إلى ترك مكروه تحريما إلى ترك مكروه تنزيها إلى ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ومن مجرد أداء للنوافل إلى زيادة فيها وإكثار منها حتى يصل العبد إلى ذلك المقام الذي جاء فيه عن الله تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه" رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه).
۞﴿قَيِّمًا﴾ أَيْ معتدلا مستويا مُسْتَقِيما لَا زَيْغ فِيهِ وَلَا مَيْل عَنِ الْحَقِّ:
كقَوْلِهُ تَعَالَى: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾؛ أَي مُسْتَقِيمَةٌ تُبيّن الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ عَلَى اسْتِواء وبُرْهان؛ وَكقَوْلِهُ تَعَالَى: ﴿وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ﴾؛ أَي دِينُ الأُمةِ الْقَيِّمَةِ بِالْحَقِّ، ويجوز أَن يكن دِينَ المِلة الْمُسْتَقِيمَةِ.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى وسطا قَواما عدلا:
يقال قَامَ مِيزانُ النَّهَارِ وَقَامَ قائمُ الظَّهِيرة إِذَا انْتَصفَ، والقَوامُ: العَدْل.
قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدًا﴾ أى خيارا عدولا.
ووصف الكتاب بقوله تعالى ﴿قَيِّمًا﴾: لاشتماله على كل الخصال المحمودة التي هى وسط بين الإفراط والتفريط، كقوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا(٦٧)﴾، ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومًا مَّحۡسُورًا(٢٩)﴾، ﴿وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا(٠١١)﴾..
وكذلك ﴿قَيِّمًا﴾ لأنه عدل في أحكامه ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ﴾ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرًا(٥٨)﴾ ﴿وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ ﴿فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ﴾ ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسۡتَقِيمٍ(٦٧)﴾.
۞﴿قَيِّمًا﴾ ميزانا لكل شىء:
يقولون: اسْتَقَامَ الشِّعر أى اتَّزَنَ.
وقد جعل الله نزول الكتاب مقرونا بنزول الميزان؛ فقال سبحانه: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِيزَانَ﴾ فجاء الكتاب وزانا بين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة ﴿فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٍ(٠٠٢) وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ(١٠٢) أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْۚ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ(٢٠٢)﴾
۞﴿قَيِّمًا﴾ مُمْتَدَحًا مُثْنًى عليه:
يقال: اسْتَقامَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ أَيْ مدَحه وأَثنى عَلَيْهِ.
وقد أثنى الله على كتابه في غير موضع؛ فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(٤)﴾، وقال: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ(٢١) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ(٣١) مَّرۡفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةِۢ(٤١) بِأَيۡدِي سَفَرَةٍ(٥١) كِرَامِۢ بَرَرَةٍ(٦١)﴾ وقال: ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ(٥٧) وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ(٦٧) إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٌ كَرِيمٌ(٧٧) فِي كِتَٰبٍ مَّكۡنُونٍ(٨٧) لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ(٩٧) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ(٠٨)﴾.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى مُثَبِّتا:
يقولون قام الماء إذا ثبت، وقائم بالدين إذا تمسك به وثبت عليه، وقائم على الحق أى ثابت عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ أى متى ثبتوا على عهدهم لكم؛ فاثبتوا على عهدكم لهم.
فكون الكتاب ﴿قَيِّمًا﴾ أى مثبتا لأتباعه على الحق؛ قال الله سبحانه: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرًا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتًا(٦٦)﴾ قيل: ما يوعظون به من القرآن، وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنًاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنًا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ(٤٢١)﴾ لما يبثه في قلوب المؤمنين به من اليقين.
فالقرآن أعظم ما يعين المرء على الاستمساك بدينه والقيام بحق ربه.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى حسنا:
يقولون رَجُلٌ قَوِيمٌ وقَوَّامٌ: حَسَنُ الْقَامَةِ، وقَوَام الرَّجُلِ: قَامَتُهُ وحُسْنُ طُوله، والقُومِيَّةُ مِثْلُهُ؛ والقَوَامُ: حُسْنُ الطُّول.
وقد قال الله تعالى: ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ﴾.
ولما كان الكتاب ﴿قَيِّمًا﴾ أى حسنا و﴿قَيِّمًا﴾ أى دائما خالدا، كان من أثر قيومية حسنه و قيومية ديمومته أن يبشر من آمن وعمل به بالأجر الحسن مع المكث الآبد في ذلك الأجر ﴿قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأۡسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنًا(٢) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(٣)﴾
تلك عشرة لكنها بالوفاء بحق معنى الكلمة غير كاملة، وفي الختام لا أجد أصدق من قول الإمام ابن عطية في تفسيره: (كتابُ اللهِ لو نُزِعَتْ منه لفظةٌ ثم أُدِيرَ لسانُ العربِ في أن يُوجِدَ أحسنَ منها لم يُوجِد).
﴿تَنزِيلٌ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٍ٤٢﴾
اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ
وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ
وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ
اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْنا، وَبِكَ آمَنَّا، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَبِكَ خَاصَمنا، وَإِلَيْكَ حَاكَمْنَا
فَاغْفِرْ لِنا مَا قَدَّمْنا وَمَا أَخَّرْنا، وَمَا أَسْرَرْنا وَمَا أَعْلَنَّا
أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
وصلّ اللهم وسلم وبارك على النبى القيم
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله الذي أنزل إلينا الكتاب قيمًا...
والصلاة والسلام على من أرسله الله للخلق كافة تاليًا ومُزكّيًا ومعلّمًا...
وبعد؛
فإن الناظر في كتاب الله عز وجل لا تنقضي نهمته ، ولا ينقطع عجبه مما يطالعه من بدائع آياته واصطفاء كلماته مع استيفاء مراداته، فتراه لا تحيف وجازته على سعة معانيه وإحاطتها، ولا يؤثر إجماله على تفصيله وبيانه، فهو إيجاز في إعجاز.. ﴿قُرۡءَانًا عَجَبًا﴾..
ونحن بصدد الوصف الثاني لكتاب الله عز وجل على ما ورد في سورة الكهف، وهو قوله سبحانه ﴿قَيِّمًا﴾، وهذا الوصف على وجازته إلا أنه استوفي حظا وافرا من خصائص وميزات هذا الكتاب المجيد.
والأصل الاشتقاقي لمادة قيما (ق و م) ومعناه: أصل يدل على انتصاب الشىء إلى أعلى ثابتا.
ويتفرع من هذا الأصل معانٍ وافرة؛ منها -على ما ورد في معاجم اللغة- :
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى مصلحا وحافظا وسائسا لأمورهم:
كقوله تعالى: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾ لأَنهم قائمون على مصالحهن، مُتكفِّلون بأُمورهن، مَعْنِيُّون بشؤونهن؛ وكقوله: ﴿إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمًا﴾ أى ملازما محافظا. وَمِنْهُ قِيلَ فِي الْكَلَامِ لِلْخَلِيفَةِ: هُوَ القائِمُ بالأَمر، وَكَذَلِكَ فُلَانٌ قَائِمٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ حَافِظًا لَهُ مُتَمَسِّكًا بِهِ.
وعليه فمعنى (قيما): أنه القَيَّامُ بمصالح الْخَلْقِ وَسَعَادَةِ الْعَالَمِ فِي جَمِيعِ أَحواله لكمال منهجه ولاشتماله على معالى القيم، وهو عِمَادُهُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ، لذا كان من أشراط الساعة رفع القرآن من الصدور والسطور، لأن قيام القيامة هو دمار هذا العالم وتقوض بنائه، ولا يمكن حصول ذلك في وجود هذا الكتاب الحفيظ، وذلك كما قال الله عن الكعبة المشرفة: ﴿جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡيَ وَٱلۡقَلَٰٓئِدَ﴾ أى أن وجودها في الأرض سبب لقيام معايشهم ومصالحهم، فلذا كان من أشراط الساعة أن يهدم البيت، ويحصل ذلك حين يفسد الناس، ويعرضوا عن كتاب الله وعن بيت الله الَّذَينِ هما سر بقاء الدنيا، لأن الدنيا خلقت لإقامة التوحيد، والقرآن هو رسالة التوحيد، والكعبة شعار التوحيد، لذا كان من قدر الله الكوني رفع الكتاب وهدم البيت إيذانا بحلول الساعة، وذلك حين لا يقال في الأرض: الله الله.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى دائما:
يقال أَقَامَ الشَّيْءَ: أَدامَه، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ،
وذلك أنه الكتاب الخاتم، والرسالة الخاتمة لكل ما تقدم، فلا رسالة بعده، ولا كتاب يعقبه فينسخه.
وكذلك هو الكتاب الخالد، والنعيم الآبد؛ يلتذ أهله في الجنة بصحبته، ويرتقون في الجنة صُعُدًا بتلاوته؛ فعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: " يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ". (صحيح/ مسند الإمام أحمد)
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى سيدا ومهيمنا وشاهدا:
قال الله تعالى ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِ﴾ مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها، قاضياً وحاكما عليها، ناسخاً لها.
ولذا تجد القرآن يتحداهم عند كذبهم بالإتيان بالتوراة ﴿قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ(٣٩)﴾
قال الإمام البقاعي -رحمه الله-: (﴿وَمُهَيۡمِنًا﴾ أي شاهداً حفيظاً مصدقاً وأميناً رقيباً ﴿عَلَيۡهِ﴾ أي على كل كتاب تقدمه - كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما- وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها، فما كان فيها موافقاً له فهو حق، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ أو مبدل فلا يعبر، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين، فملته ناسخة لجميع الملل، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه).
وكونه قيما أى شاهدا؛ فلأنه كما قال رسول الله ﷺ : "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ"، وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ -أى خَصِمٌ مجادل-، فَمَنْ جَعَلَهُ أمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ قَادَهُ إِلَى النَّارِ»، وهو معنى قوله تعالى: ﴿قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأۡسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنًا(٢)﴾.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى قصدا :أى مبينا سهلا قريبا:
أما من حيث لفظه وتلاوته: فقد تعاطاه الصغير والكبير، وحفظه العربى والأعجمى، ولعمر الله هذه خصيصة لم يظفر بها إلا القرآن، لتكون شاهد عدل وآية صدق على قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٍ(٧١)﴾، يقول الإمام البقاعي في تفسير هذه الآية: (فالمعنى: أنَّا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلا،ً لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به؛ فكان في ذلك إعجازان: أحدهما أنه فوق بلاغتهم، والثاني أنه مع علوه يشترك في أصل فهمه الذكي والغبي).
ويقول الإمام الماوري في أعلام النبوة: (والوجه السادس عشر من إعجازه: تيسيره على جميع الألسنة حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يُحْفَظُ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها به، وما ذاك إلّا بخصائص إلهية، فَضَّلَه بها على سائر كتبه)
وأما من حيث تشريعه: فقد قال سبحانه: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ(٦)﴾، وقال جل وعلا:﴿هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٍ﴾، وقال عز شأنه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ﴾، وقال جل جلاله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (صحيح البخاري)
يقول الإمام الزرقاني في مناهل العرفان متحدثا عن إعجاز القرآن في يسر تشريعه: (ترتيبه الأوامر والنواهي ترتيبا يسع جميع الناس على تفاوت استعدادهم ومواهبهم، فالأوامر الدينية درجات هذا إيمان وهذا إسلام، وهذا ركن وهذا فرض وهذا واجب وهذا مندوب مؤكد وهذا مندوب غير مؤكد، والمناهي كذلك درجات هذا نفاق وهذا شرك وهذا كفر وهذه كبيرة وهذه صغيرة وهذا مكروه تحريما وهذا مكروه تنزيها وما وراء هذه الأوامر والنواهي فمباحات لكل أن يأخذ وأن يدع منها ما شاء.
ولا ريب أن وضع التشريع على هذا الوجه فيه متسع للجميع وفيه إغراء للنفوس الضعيفة أن تتشرف باعتناق الإسلام ولو في أدنى درجة من درجاته حتى إذا أنست به وذاقت حلاوته تدرجت في مدارج الرقي فمن إيمان إلى إسلام إلى أداء ركن إلى أداء فرض إلى أداء واجب إلى أداء مندوب غير مؤكد ومن ترك نفاق إلى ترك شرك وكفر إلى ترك كبيرة إلى ترك صغيرة إلى ترك مكروه تحريما إلى ترك مكروه تنزيها إلى ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ومن مجرد أداء للنوافل إلى زيادة فيها وإكثار منها حتى يصل العبد إلى ذلك المقام الذي جاء فيه عن الله تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه" رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه).
۞﴿قَيِّمًا﴾ أَيْ معتدلا مستويا مُسْتَقِيما لَا زَيْغ فِيهِ وَلَا مَيْل عَنِ الْحَقِّ:
كقَوْلِهُ تَعَالَى: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾؛ أَي مُسْتَقِيمَةٌ تُبيّن الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ عَلَى اسْتِواء وبُرْهان؛ وَكقَوْلِهُ تَعَالَى: ﴿وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ﴾؛ أَي دِينُ الأُمةِ الْقَيِّمَةِ بِالْحَقِّ، ويجوز أَن يكن دِينَ المِلة الْمُسْتَقِيمَةِ.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى وسطا قَواما عدلا:
يقال قَامَ مِيزانُ النَّهَارِ وَقَامَ قائمُ الظَّهِيرة إِذَا انْتَصفَ، والقَوامُ: العَدْل.
قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدًا﴾ أى خيارا عدولا.
ووصف الكتاب بقوله تعالى ﴿قَيِّمًا﴾: لاشتماله على كل الخصال المحمودة التي هى وسط بين الإفراط والتفريط، كقوله سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا(٦٧)﴾، ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومًا مَّحۡسُورًا(٢٩)﴾، ﴿وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا(٠١١)﴾..
وكذلك ﴿قَيِّمًا﴾ لأنه عدل في أحكامه ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ﴾ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرًا(٥٨)﴾ ﴿وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ ﴿فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ﴾ ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسۡتَقِيمٍ(٦٧)﴾.
۞﴿قَيِّمًا﴾ ميزانا لكل شىء:
يقولون: اسْتَقَامَ الشِّعر أى اتَّزَنَ.
وقد جعل الله نزول الكتاب مقرونا بنزول الميزان؛ فقال سبحانه: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِيزَانَ﴾ فجاء الكتاب وزانا بين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة ﴿فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٍ(٠٠٢) وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ(١٠٢) أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْۚ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ(٢٠٢)﴾
۞﴿قَيِّمًا﴾ مُمْتَدَحًا مُثْنًى عليه:
يقال: اسْتَقامَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ أَيْ مدَحه وأَثنى عَلَيْهِ.
وقد أثنى الله على كتابه في غير موضع؛ فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(٤)﴾، وقال: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ(٢١) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ(٣١) مَّرۡفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةِۢ(٤١) بِأَيۡدِي سَفَرَةٍ(٥١) كِرَامِۢ بَرَرَةٍ(٦١)﴾ وقال: ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ(٥٧) وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ(٦٧) إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٌ كَرِيمٌ(٧٧) فِي كِتَٰبٍ مَّكۡنُونٍ(٨٧) لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ(٩٧) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ(٠٨)﴾.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى مُثَبِّتا:
يقولون قام الماء إذا ثبت، وقائم بالدين إذا تمسك به وثبت عليه، وقائم على الحق أى ثابت عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ﴾ أى متى ثبتوا على عهدهم لكم؛ فاثبتوا على عهدكم لهم.
فكون الكتاب ﴿قَيِّمًا﴾ أى مثبتا لأتباعه على الحق؛ قال الله سبحانه: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرًا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتًا(٦٦)﴾ قيل: ما يوعظون به من القرآن، وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنًاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنًا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ(٤٢١)﴾ لما يبثه في قلوب المؤمنين به من اليقين.
فالقرآن أعظم ما يعين المرء على الاستمساك بدينه والقيام بحق ربه.
۞﴿قَيِّمًا﴾ أى حسنا:
يقولون رَجُلٌ قَوِيمٌ وقَوَّامٌ: حَسَنُ الْقَامَةِ، وقَوَام الرَّجُلِ: قَامَتُهُ وحُسْنُ طُوله، والقُومِيَّةُ مِثْلُهُ؛ والقَوَامُ: حُسْنُ الطُّول.
وقد قال الله تعالى: ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ﴾.
ولما كان الكتاب ﴿قَيِّمًا﴾ أى حسنا و﴿قَيِّمًا﴾ أى دائما خالدا، كان من أثر قيومية حسنه و قيومية ديمومته أن يبشر من آمن وعمل به بالأجر الحسن مع المكث الآبد في ذلك الأجر ﴿قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأۡسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنًا(٢) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(٣)﴾
تلك عشرة لكنها بالوفاء بحق معنى الكلمة غير كاملة، وفي الختام لا أجد أصدق من قول الإمام ابن عطية في تفسيره: (كتابُ اللهِ لو نُزِعَتْ منه لفظةٌ ثم أُدِيرَ لسانُ العربِ في أن يُوجِدَ أحسنَ منها لم يُوجِد).
﴿تَنزِيلٌ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٍ٤٢﴾
اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ
وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ
وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ
اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْنا، وَبِكَ آمَنَّا، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَبِكَ خَاصَمنا، وَإِلَيْكَ حَاكَمْنَا
فَاغْفِرْ لِنا مَا قَدَّمْنا وَمَا أَخَّرْنا، وَمَا أَسْرَرْنا وَمَا أَعْلَنَّا
أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
وصلّ اللهم وسلم وبارك على النبى القيم
والحمد لله رب العالمين
Comments
Post a Comment